
الصورة دي الوحيدة للست أنصاف، الداية اللي كانت بتشتغل في عزبة جدي، العزبة اللي كانت شايلة اسم العيلة، وكان جدي وقتها العمدة وكبير البلد.
الحكاية بدأت بلعنة غـ,ـريبة، كل الولاد اللي بيتولدوا في البلد بيموتوا، والبنات بس هما اللي بيعيشوا. في الأول، الناس افتكرت إن ده نصيب، بس مع الوقت بقى الموضوع مرعب، كل ولد بيتولد، بعدها يتدفن! لحد ما الأمهات بقوا يدعوا ربنا وقت الحمل إنه يرزقهم ببنت.
جدي كان بيقول لي إنه في الفترة دي كان حاسس برعب، كأن العزبة مسكونة بلعنة، وكل كام يوم، واحدة تولد، ولو المولود ولد، يروحوا يدفنوه من غير حتى ما يستغربوا.
أنصاف كانت الداية الوحيدة في العزبة، كل الناس بتروح لها، لأنها كانت الوحيدة اللي متعلمة التوليد على أيد ناس من بلاد بره، ودرست في مدرسة في الزقازيق. الصورة دي لأول دفعة اتخرجت من المدرسة، وأنصاف كانت أشطر واحدة فيهم، عشان كده واقفة جنب المعلمة في الصورة.
أنصاف أصلاً مش من بلدنا، وإحنا أصلًا العـ,ـزبة عندنا محدش غريب بيدخلها، بس هي راحت لجدي تبكي وتتحايل عليه إنها ملهاش حد بعد ما ابنها الوحيد مات، فصـ,ـعبت عليه. لما قالت له إنها عايزة تتعلم التوليد عشان تفيد البلد، فرح بالفكرة واتكفل بمصاريفها، وبنى لها بيت صغير في آخر العزبة.
مفيش مرة حد احتاجها فيها وما لقهاش، كانت بتيجي في أي وقت، ليل قبل نهار. حتى أبويا وهو طفل، كان بيحكي إنه راح لها وقت الفجر عشان تولّد جدتي، وبالفعل أنصاف اتولدت عمتي اللي طلعت زي القمر على إيدها. كانت ست غلبانة وفي حالها، مبتتكلمش كتير، وعمر ما حد شاف منها حاجة وحشة.
لكن رغم كل ده، البلد كانت غرقانة في الحزن، لأن كل صبيانها ماتوا، والناس بدأت تتشائم من أنصاف، بس برضو قالوا: “هي ذنبها إيه؟ ده نصيب!”، بس جدي كان مستغرب، لأنها هي اللي ولدتني، ومع ذلك أنا الوحيد اللي عشت، وده كان شيء غريب جدًا.
الناس بدأوا ينسوا الحكاية، وقالوا: “خلاص، ده قدر!”، لكن بعدها بكم سنة، رجع الموضوع تاني، والولاد رجعوا يموتوا، لحد ما جه اليوم اللي انكشف فيه كل حاجة!
مرات خالي سالم كانت ست عفية وناصحة، بعد ما ولدت، أنصاف ناولتها كوباية مية تشربها، بس هي عملت نفسها شربتها، ولمحت أنصاف وهي بتحاول بكل هدوء تكتم صوت المولود عشان يموت.
مرات خالي صرخت، وأنصاف اتخضّت وحاولت تهرب، بس معرفتش، والناس مسكوها، وجدي بلغ المديرية.
ساعتها، زمان في القرى، الطفل اللي بيتولد كان بيتدفن عادي من غير تصاريح ولا كشف دكتور، فمكنش حد بيعرف سبب الوفاة الحقيقي، وده اللي خلى أنصاف تعمل اللي هي بتعمله من غير ما حد يشك فيها.
لما المديرية حققت معاها، طلع إنها مريضة نفسية بسبب فقدان ابنها الوحيد، اللي جه بعد 20 سنة جواز، لكنه مات على يد الداية اللي ولدته، ومن ساعتها وهي في حالة سودا.
كانت بتصرخ وتقول: “هي اللي قتلته! محدش عاوزني أفرح!”
واعترفت إنها كانت بتنيم الأمهات بعد الولادة، وتخنق الأطفال الذكور من غير ما حد يحس، ولما كانوا بيسألوها، كانت تقول: “تعب الولادة!”.
وانتهت أسطورة أنصاف لما اتحبست في مصحة نفسية، والعزبة رجعت زي الأول، وبقت الأمهات تدعي إنها تخلف ولاد تاني، علشان يبقوا سند لأخواتهم البنات.
لكن السؤال اللي فضلت أسأله لنفسي سنين: “أشمعنا أنا؟ ليه أنا الوحيد اللي عشت؟”
سألت جدي، بس كان دايمًا يغير الموضوع.
لكن قبل ما يموت بفترة، نده عليّ، ومسك إيدي، وقالي
“يا وليد، يوم ما قبضوا على أنصاف، سألتها ليه سابتك؟”
وقالي السبب وكلامه خوفني وهزني من جوايا، وحلفني إني ما أقوله لحد في يوم من الأيام.
ماتت أنصاف في المصحة، ومات جدي، والسر مات معاه… محدش يعرفه غيري.
ورجعت شمس الحياة تاني للعزبة، ورجعت الأمهات تدعي إنها تخلف ولاد عشان الأرض، عشان يبقوا سند لأخواتهم البنات. ❤️
#وليد_يسري
Waleed Yosry